فصل: السؤال الثامن في قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} تذكير لنعمةٍ أخرى كفروها وكان ذلك في التيه حين استولى عليهم العطشُ الشديد، وتغييرُ الترتيب لما أشير إليه مرارًا من قصد إبرازِ كلَ من الأمور المعدودة في معرِض أمرٍ مستقلَ واجبِ التذكير والتذكرِ ولو رُوعي الترتيبُ الوقوعي لفُهم أن الكلَّ أمرٌ واحد أُمر بذكره، واللام متعلقة بالفعل أي استسقى لأجل قومه {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر} رُوي أنه كان حَجَرًا طوريًا مكعبًا حمله معه وكان ينبُع من كل وجه منه ثلاثُ أعين تسيل كلُّ عين في جدول إلى سبط وكانوا ستمائة ألفٍ وسعةَ المعسكر اثنيْ عشَرَ ميلًا أو كان حجَرًا أهبطه الله تعالى مع آدمَ عليه السلام من الجنة ووقع إلى شعيب عليه السلام فأعطاه موسى عليه السلام مع العَصا أو كان هو الحجرَ الذي فرَّ بثوبه حين وضعَه عليه ليغتسل وبرّأه الله تعالى به عما رمَوْه به من الأَدَرَة فأشار إليه جبريلُ عليه السلام أن يحمِلَه أو كان حَجَرًا من الحجارة وهو الأظهر في الحجة، قيل: لم يؤمَرْ عليه السلام بضرب حجر بعينه ولكن لما قالوا كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها حَملَ حجَرًا في مخلاتِه وكان يضربه بعصاه إذا نزل فيتفجَّر ويضرِبُه إذا ارتحل فييبَس فقالوا: إنْ فقَد موسى عصاه مِتْنا عطشًا، فأوحى الله تعالى إليه أن لا تقرَعِ الحجَر وكلِّمْه يُطِعْك لعلهم يعتبرون وقيل: كان الحجر من رُخام حجمُه ذِراعٌ في ذراع والعصا عشرةُ أذرُعٍ على طوله عليه السلام من آسِ الجنة ولها شُعبتان تتقدان في الظلمة {فانفجرت} عطف على مقدّر ينسحب عليه الكلام قد حُذف للدلالة على كمال سُرعة تحقُّق الانفجار كأنه حصلَ عَقيبَ الأمرِ بالضرب أي فضُرب فانفجَرَتْ {مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} وأما تعلقُ الفاءِ بمحذوفٍ أي فإنْ ضَرَبْتَ فقد انفجرت فغيرُ حقيق بجلالة شأن النظمِ الكريم كما لا يخفى على أحد، وقرئ عشِرة بكسر الشين وفتحها وهما أيضًا لغتان {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط {مَّشْرَبَهُمْ} عينُهم الخاصةُ بهم {كُلُواْ واشربوا} على إرادة القول: {مِن رّزْقِ الله} هو ما رزقهم من المنّ والسلوى والماء وقيل: هو الماءُ وحده لأنه يؤكَلُ ما ينبُت به من الزروع والثمار ويأباه أن المأمورَ به أكلُ النعمة العتيدة لا ما سيطلُبونه وإضافتُه إليه تعالى مع استناد الكلِّ إليه خلقًا وملكًا إما للتشريف وإما لظهوره بغير سبب عاديّ، وإنما لم يقُلْ من رزقنا كما يقتضيه قوله تعالى: فقلنا إلخ إيذانًا بأن الأمرَ بالأكل والشرب لم يكن بطريق الخِطاب بل بواسطة موسى عليه السلام {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض} العثْيُ أشدُّ الفساد فقيل لهم: لا تتمادَوْا في الفساد حال كونكم {مُفْسِدِينَ} وقيل: إنما قيد به لأن العَثْيَ في الأصل مطلقُ التعدي وإن غلب في الفساد وقد يكون في غير الفساد كما في مقابلة الظالم المعتدي بفعله وقد يكون فيه صلاحٌ راجح كقتل الخَضِر عليه السلام للغلام وخرقِه للسفينة، ونظيرُه العيْثُ خلا أنه غالبٌ فيما يدرك حِسًا. اهـ.

.تنبيهات مهمة:

قال ابن كثير:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وجُعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأُمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا في كل ناحية منه ثلاث عيون وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها، لا يرتحلون من منقلة- إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول- وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل. اهـ.
ونقل ابن كثير أقوال بعض المفسرين في وصف الحجر مع ما فيها من مبالغة دون أن يقرها أو ينكرها. حيث قال: وقال عطية العوفي: وجعل لهم حجرًا مثل رأس الثور يحمل على ثور، فإذا نزلوا وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء، وقيل كان لبني إسرائيل حجر فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا، وقال قتادة: كان حجرًا طوريًا من الطور يحملونه معهم إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، وقال الزمخشري وقيل: كان من الرخام وكان ذراعًا في ذراع، وقيل مثل رأس الإنسان وقيل: كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار، وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا، وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته. اهـ.
وقال ابن الجوزي: واختلفوا في صفة الحجر على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كان حجرًا مربعًا، والثاني: كان مثل رأس الثور، والثالث: مثل رأس الشاة.
وقال الإمام الفخر- رحمه الله- بعد ذكر بعض هذه الأقوال في صفة الحجر: واعلم أن السكوت عن أمثال هذه المباحث واجب، لأنه ليس فيها نص متواتر قاطع، ولا يتعلق بها عمل حتى يكتفي فيها بالظن المستفاد من أخبار الآحاد فالأولى تركها. اهـ.
وقال الآلوسي: بعد أن ذكر أكثر هذه الروايات في صفة الحجر:
وظاهر أكثرها التعارض، ولا ينبئ على تعيين هذا الحجر أمر ديني والأسلم تفويض علمه إلى الله. اهـ.
الإمام الطبري، والزمخشري، وابن الجوزي، وابن جزي في التسهيل، والبغوي، والخازن، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وأبو السعود، فهذه الأقوال يجب عدم التعويل عليها، والأرجح أنها من الإسرائيليات المنكرة التي شوهت كتب التفسير، كذلك يجب التنبيه على ضعف ما ورد من مبالغة في قوله تعالى: {ونزلنا عليكم المن والسلوى} فقد ذكر الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره أن بني إسرائيل وهم في التيه كان ينزل عليهم المن والسلوى، ولا تبلى ثيابهم. انتهى كلامه- سبحان الله هذا أمر لم يتحقق إلا لأهل الجنة فقط يوم المزيد بل لم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل من قطف العنب الذي في الجنة عندما رآه وهو يصلي بالمسلمين، والحديث معروف- رزقنا الله وإياكم الفوز بالجنة. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.السؤال الأول: هل يجوز أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر فينفجر من غير ضرب حتى يستغني عن تقدير هذا المحذوف؟

الجواب: لا يمتنع في القدرة أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر ومن قبل أن يضرب ينفجر على قدر الحاجة لأن ذلك لو قيل إنه أبلغ في قيل: إنه أبلغ في الإعجاز لكان أقرب، لكن الصحيح أنه ضرب فانفجرت لأنه تعالى لو أمر رسوله بشيء، ثم إن الرسول لا يفعله لصار الرسول عاصيًا، ولأنه إذا انفجر من غير ضرب صار الأمر بالضرب بالعصا عبثًا، كأنه لا معنى له ولأن المروي في الأخبار أن تقديره: فضرب فانفجرت كما في قوله تعالى: {فانفلق} [الشعراء: 63] من أن المراد فضرب فانفلق.

.السؤال الثاني: أنه تعالى ذكر هاهنا: {فانفجرت} وفي الأعراف: {فانبجست} [الأعراف: 16] وبينهما تناقض لأن الانفجار خروج الماء بكثرة والانبجاس خروجه قليلًا:

الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: الفجر الشق في الأصل، والانفجار الانشقاق، ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بخروجه إلى الفسق، والانبجاس اسم للشق الضيق القليل، فهما مختلفان اختلاف العام والخاص، فلا يتناقضان، وثانيها: لعله انبجس أولًا، ثم انفجر ثانيًا، وكذا العيون: يظهر الماء منها قليلًا ثم يكثر لدوام خروجه.
وثالثها: لا يمتنع أن حاجتهم كانت تشتد إلى الماء فينفجر، أي يخرج الماء كثيرًا ثم كانت تقل فكان الماء ينبجس أي يخرج قليلًا.

.السؤال الثالث: كيف يعقل خروج المياه العظيمة من الحجر الصغير؟

الجواب: هذا السائل إما أن يسلم وجود الفاعل المختار أو ينكره، فإن سلم فقد زال السؤال، لأنه قادر على أن يخلق الجسم كيف شاء كما خلق البحار وغيرها، وإن نازع فلا فائدة له في البحث عن معنى القرآن والنظر في تفسيره، وهذا هو الجواب عن كل ما يستبعدونه من المعجزات التي حكاها الله تعالى في القرآن من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وأيضًا فالفلاسفة لا يمكنهم القطع بفساد ذلك لأن العناصر الأربعة لها هيولى مشتركة عندهم، وقالوا: إنه يصح الكون والفساد عليها، وإنه يصح انقلاب الهواء ماء وبالعكس وكذلك قالوا: الهواء إذا وضع في الكوز الفضة جمد فإنه يجتمع على أطراف الكوز قطرات الماء، فقالوا: تلك القطرات إنما حصلت لأن الهواء انقلب ماء فثبت أن ذلك ممكن في الجملة والحوادث السفلية مطيعة للاتصالات الفلكية، فلم يكن مستبعدًا أن يحدث اتصال فلكي يقتضي وقوع هذا الأمر الغريب في هذا العالم.
فثبت أن الفلاسفة لا يمكنهم الجزم بفساد ذلك.
أما المعتزلة فإنهم لما اعتقدوا كون العبد موجدًا لأفعاله لا جرم قلنا لهم: لم لا يجوز أن يقدر العبد على خلق الجسم؟ فذكروا في ذلك طريقين ضعيفين جدًا سنذكرهما إن شاء الله تعالى في تفسير آية السحر، ونذكر وجه ضعفهما وسقوطهما.
وإذا كان كذلك فلا يمكنهم القطع بأن ذلك من فعل الله تعالى فتنسد عليهم أبواب المعجزات والنبوات، أما أصحابنا فإنهم لما اعتقدوا أنه لا موجد إلا الله تعالى لا جرم جزموا أن المحدث لهذه الأفعال الخارقة للعادات هو الله تعالى، فلا جرم أمكنهم الاستدلال بظهورها على يد المدعي على كونه صادقًا.

.السؤال الرابع: أتقولون إن ذلك الماء كان مستكنًا في الحجر ثم ظهر أو قلب الله الهواء ماء أو خلق الماء ابتداء؟

والجواب: أما الأول فباطل لأن الظرف الصغير لا يحوي الجسم العظيم إلا على سبيل التداخل وهو محال.
أما الوجهان الأخيران فكل واحد منهما محتمل، فإن كان على الوجه الأول فقد أزال الله تعالى اليبوسة عن أجزاء الهواء وخلق الرطوبة فيها وإن كان على الوجه الثاني فقد خلق تلك الأجزاء وخلق الرطوبة فيها.
واعلم أن الكلام في هذا الباب كالكلام فيما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات وقد ضاق بهم الماء فوضع يده في متوضئه ففار الماء من بين أصابعه حتى استكفوا.

.السؤال الخامس: معجزة موسى في هذا المعنى أعظم أم معجزة محمد عليه السلام؟

الجواب: كل واحدة منهما معجزة باهرة قاهرة، لكن التي لمحمد صلى الله عليه وسلم أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة، أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد ألبتة فكان ذلك أقوى.

.السؤال السادس: ما الحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عينًا؟

والجواب: أنه كان في قوم موسى كثرة والكثير من الناس إذا اشتدت بهم الحاجة إلى الماء ثم وجدوه فإنه يقع بينهم تشاجر وتنازع وربما أفضى ذلك إلى الفتن العظيمة فأكمل الله تعالى هذه النعمة بأن عين لكل سبط منهم ماء معينًا لا يختلط بغيره والعادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين.

.السؤال السابع: من كم وجه يدل هذا الانفجار على الإعجاز؟

والجواب: من وجوه: أحدها: أن نفس ظهور الماء معجز، وثانيها: خروج الماء العظيم من الحجر الصغير، وثالثها: خروج الماء بقدر حاجتهم، ورابعها: خروج الماء عند ضرب الحجر بالعصا، وخامسها: انقطاع الماء عند الاستغناء عنه، فهذه الوجوه الخمسة لا يمكن تحصيلها إلا بقدرة تامة نافذة في كل الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات وحكمة عالية على الدهر والزمان، وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى. اهـ.

.السؤال الثامن في قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}:

فإن قيل: قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} العثو: الفساد، فيصير المعنى: ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟
الجواب: قلنا معناه: ولا تعثوا في الأرض بالكفر وأنتم مفسدون بسائر المعاصي. اهـ.
وفي محاسن التأويل: وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي: لا تمشوا في الأرض بالفساد وخلاف أمر موسى.
قال الراغب: فإن قيل: فما فائدة قوله: {مفسدين} والعث وضرب من الإفساد؟
قيل: قد قال بعض النحويين إن ذلك حال مؤكدة، وذكر ألفاظًا مما يشبه، وقال بعض المحققين: إن العثو، وإن اقتضى الفساد، فليس بموضوع له، بل هو كالاعتداء، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد، وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] وهذا الاعتداء ليس بإفساد، بل هو، بالإضافة إلى ما قوبل به، عدل، ولولا كونه جزاء لكان إفسادًا، فبين تعالى أن العث والمنهي عنه هو المقصود به الإفساد فالإفساد مكروه على الإطلاق، ولهذا قال: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: 56] وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل، كما تقدم وهذا ظاهر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} وفى الأعراف: {فانبجست} مع أن المعنى واحد فمعنى الانبجاس الانفجار يسأل عن وجه اختصاص كل من الموضعين بما ورد فيه.
والجواب والله أعلم أن الفعلين وإن اجتمعا في المعنى فليسا على حد سواء بل الانبجاس ابتداء الانفجار والانفجار بعدة غاية له قال القرطبى: الانبجاس أول الانفجار، وقال ابن عطيه: انبجست انفجرت لكنه أخف من الانفجار وإذا تقرر هذا فأقول: إن الواقع في الأعراف طلب بنى إسرائيل من موسى عليه السلام السقيا قال تعالى: {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه} والوارد في سورة البقرة طلب موسى عليه السلام من ربه قال تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه} فطلبهم ابتداء فناسبه الابتداء وطلب موسى عليه السلام غاية لطلبهم لأنه واقع بعده ومرتب عليه فناسب الابتداء الابتداء والغاية الغاية، فقيل جوابا لطلبهم: {فانبجست} وقيل إجابة لطلبه: {فانفجرت} وتناسب ذلك وجاء على ما يجب ولم يكن ليناسب العكس. والله أعلم. اهـ.